السؤال:
إن الله أعمى أبصار المشركين الواقفين حول بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الهجرة حتى خرج من بينهم سالمًا، وإن العنكبوت نَسَجَتْ على الغار فلم يستطيعوا رؤيته؟ فهل هذا صحيح؟
الإجابة:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في موضوع المعجزات الحسية عامة ومعجزات الهجرة خاصة:
الناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:
فالصنف الأول: يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب سواء كانت للمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافق ذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه. المهم أن يروي ذلك في كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحو ذلك.
وهذه عقلية عامية لا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيح والمختلق الموضوع.
وقد ابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بها بطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريح المعقول.
وبعض المؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك. ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا في الأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيب والترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلوا وتسامحوا.
ومؤلفون آخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها، فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرون قيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها : أهم ثقات مقبولون أم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأوا أنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصور الأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلى السند.
وهذا هو موقف جمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أو غيرها .يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية ، وعمدته في ذلك : أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم وهو الذي وقع به التحدي: أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله.
ولما طلب المشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفض القاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟) ) . سورة الإسراء 90 – 93:).
وفي موضع آخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) . (سورة الإسراء( 59 :
وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كل الكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى ) :أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . (سورة العنكبوت(51:
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقلية أدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".
ويبدو لي أن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:
أولاً : افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمة على ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لا يتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أن ينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الثاني : غلو الصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسباب والسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلو مثله.
وهنا يظهر الرأي الوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحه وأتبناه. وخلاصة هذا الرأي:
1- أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوة محمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته ؛ وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب : ماضيه وحاضره ومستقبله.
2- أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانت تكريمًا من الله له، أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد؛ فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين، وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشار إليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لم يصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.
ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك.
3- إننا لا نثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة الثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأ به.
فمن الصحيح الثابت:
) أ (ما رواه جماعة من الصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلما صنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت.
قال العلامة تاج الدين السبكي : حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين، من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنه متواتر.
) ب (ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضة الماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثل غزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه به جميعًا.
وروى البخاري عن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربع عشرة مائة ( أي 1400) وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال : فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا )سقتنا وروتنا( ماشيتنا نحن وركابنا.
والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة، ومروية بأصح الطرق.
)جـ(ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه .. إلخ.
( د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم -، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن : إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينية وغيرها.
ونكتفي هنا بما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة من المدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف.
أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون .
وظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولاشك والنصر بجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر الإلهي والعجز البشري . وإنما اشتهرت هذه الخوارق بين جمهور المسلمين بسبب المدائح النبوية، للمتأخرين وبخاصة مثل " البردة " للبوصيري التي يقول فيها:
ظنوا الحمام، وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم.
وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم.
فهذا هو موقفنا من الخوارق والمعجزات النبوية المنسوبة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- .
والله أعلم